سورة الأنبياء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


يقال: قرب الشيء واقترب وقد اقترب الحساب، أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه. قال الزجاج: المعنى: {اقترب لِلنَّاسِ} وقت {حِسَابَهُمْ} أي القيامة كما في قوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1]. واللام في {للناس} متعلقة بالفعل، وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة، ومعنى اقتراب وقت الحساب: دنّوه منهم، لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها. وقيل: لأن كل ما هو آتٍ قريب، وموت كل إنسان قيام ساعته. والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، والمراد بالناس: العموم. وقيل: المشركون مطلقاً. وقيل: كفار مكة، وعلى هذا الوجه قيل: المراد بالحساب: عذابهم يوم بدر، وجملة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} في محل نصب على الحال، أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله. والقيام بفرائضه، والانزجار عن مناهيه.
{مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ}: {من} لابتداء الغاية.
وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثاً على أن القرآن محدث، لأن الذكر هنا هو: القرآن.
وأجيب بأنه: لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف، لأنه متجدد في النزول. فالمعنى محدث تنزيله، وإنما النزاع في الكلام النفسي.
وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه، قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده. والقصة أشهر من أن تذكر، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي. ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله سبحانه.
وقوله: {إِلاَّ استمعوه} استثناء مفرغ في محل نصب على الحال.
وجملة: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في محل نصب على الحال أيضاً، من فاعل استمعوه، و{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حال أيضاً والمعنى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب، وقرئ: {لاهية} بالرفع كما قرئ: {محدث} بالرفع {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} النجوى: اسم من التناجي، والتناجي لا يكون إلا سرّاً، فمعنى إسرار النجوى: المبالغة في الإخفاء.
وقد اختلف في محل الموصول على أقوال، فقيل: إنه في محل رفع بدل من الواو في {أسرّوا}، قاله المبرد وغيره. وقيل: هو في محل رفع على الذمّ. وقيل: هو فاعل لفعل محذوف، والتقدير: يقول الذين ظلموا، واختار هذا النحاس، وقيل: في محل نصب بتقدير أعني. وقيل: في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد. وقيل: هو في محل رفع على أنه فاعل {أسرّوا} على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين، كقولهم: أكلوني البراغيث، ذكر ذلك الأخفش، ومثله {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} [المائدة: 71] ومنه قول الشاعر:
فاهتدين البغال للأغراض ***
وقول الآخر:
ولكن دنا بي أبوه وأمه *** بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، أي والذين ظلموا أسرّوا النجوى. قال أبو عبيدة: أسرّوا هنا من الأضداد، يحتمل أن يكون بمعنى: أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون بمعنى: أظهروه وأعلنوه {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} هذه الجملة بتقدير القول قبلها، أي قالوا: هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلاً من النجوى، وهل بمعنى النفي أي: وأسرّوا هذا الحديث، والهمزة في {أَفَتَأْتُونَ السحر} للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، وجملة: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل نصب على الحال، والمعنى: إذا كان بشراً مثلكم، وكان الذي جاء به سحراً، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال: {قُل رَّبّي يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض} أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما، وفي مصاحف أهل الكوفة: {قال ربي} أي قال محمد: ربي يعلم القول، فهو عالم بما تناجيتم به. قيل: القراءة الأولى أولى، لأنهم أسرّوا هذا القول، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا. قال النحاس: والقراءتان صحيحتان، وهما بمنزلة آيتين {وَهُوَ السميع} لكل ما يسمع {العليم} بكل معلوم، فيدخل في ذلك ما أسرّوا دخولاً أولياً.
{بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} قال الزجاج: أي قالوا: الذي تأتي به أضغاث أحلام. قال القتيبي: أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة.
وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول.
ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم: أضغاث أحلام، قال: {بَلِ افتراه} أي بل قالوا: افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل. ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وما أتى به من جنس الشعر، وفي هذا الاضطراب منهم، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه؟ أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان. ثم بعد هذا كله، قالوا: {فليأتنا بآية} وهذا جواب شرط محذوف أي: إن لم يكن كما قلنا: فليأتنا بآية {كَمَا أُرْسِلَ الأولون} أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، ومحل الكاف الجرّ صفة لآية، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك، كما قال: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال، فقال الله مجيباً لهم: {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ} أي قبل مشركي مكة، ومعنى {من قرية}: من أهل قرية، ووصف القرية بقوله: {أهلكناها} أي أهلكنا أهلها، أو أهلكناها بإهلاك أهلها. وفيه بيان أن سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، و{من} في {من قرية} مزيدة للتأكيد، والمعنى: ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء، فكيف نعطيهم ما يقترحون، وهم أسوة من قبلهم، والهمزة في {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} للتقريع والتوبيخ، والمعنى: إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا.
ثم أجاب سبحانه عن قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ} أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالاً من البشر، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً} [الإسراء: 95]. وجملة {نوحي إليهم} مستأنفة لبيان كيفية الإرسال، ويجوز أن تكون صفة ل {رجالاً} أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم. قرأ حفص وحمزة والكسائي: {نوحي} بالنون، وقرأ الباقون بالياء: {يوحي}. ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} وأهل الذكر: هم أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ومعنى {إن كنتم لا تعلمون}: إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر، كذا قال أكثر المفسرين.
وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه، وتقدير الكلام: إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر.
وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنّة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته.
وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة: سميناها: القول المفيد في حكم التقليد.
ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال: {وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون، والجسد جسم الإنسان. قال الزجاج: هو واحد، يعني الجسد ينبئ عن جماعة، أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة: {لا يأكلون الطعام} صفة ل {جسداً} أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل، بل هو محتاج إلى ذلك {وَمَا كَانُواْ خالدين} بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون، فأجاب الله عليهم بهذا.
وجملة: {ثُمَّ صدقناهم الوعد} معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق، والتقدير: أوحينا إليهم ما أوحينا. {ثم صدقناهم الوعد} أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، ولهذا قال سبحانه: {فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء} من عبادنا المؤمنين، والمراد: إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي، والمراد ب {المسرفين}: المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي، وهم المشركون.
وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} قال: «في الدنيا».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: «من أمر الدنيا».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} كل هذا قد كان منه {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أهلكناها} أي أن الرسل كانوا إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إذا كان ما تقوله حقاً ويسرّك أن نؤمن فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا لم يُنْظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: «بل أستأني بقومي»، فأنزل الله: {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} يقول: لم نجعلهم جسداً ليس يأكلون الطعام، إنما جعلناهم جسداً يأكلون الطعام.


نبه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا} يعني القرآن {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} صفة ل {كتاباً}، والمراد بالذكر هنا: الشرف، أي فيه شرفكم كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وقيل: {فيه ذكركم} أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب. وقيل: فيه حديثكم، قاله مجاهد. وقيل: مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم. وقيل: فيه العمل بما فيه حياتكم. قاله سهل بن عبد الله. وقيل: فيه موعظتكم، والاستفهام في: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} للتوبيخ والتقريع، أي: أفلا تعقلون أن الأمر كذلك، أو لا تعقلون شيئاً من الأشياء التي من جملتها ما ذكر.
ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة، فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظالمة}: {كم} في محل نصب على أنها مفعول {قصمنا} وهي الخبرية المفيدة للتكثير. والقصم: كسر الشيء ودقه، يقال: قصمت ظهر فلان: إذا كسرته، واقتصمت سنه: إذا انكسرت، والمعنى هنا: الإهلاك والعذاب. وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، وجملة: {كَانَتْ ظالمة} في محل جرّ صفة لقرية، وفي الكلام مضاف محذوف، أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين، أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوماً ليسوا منهم.
{فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} أي أدركوا أو رأوا عذابنا، وقال الأخفش: خافوا وتوقعوا، أو البأس: العذاب الشديد {إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ} الركض: الفرار والهرب والانهزام، وأصله: من ركض الرجل الدابة برجليه، يقال: ركض الفرس: إذا كدّه بساقيه، ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه: {اركض بِرِجْلِكَ} [ص: 42] والمعنى: أنهم يهربون منها راكضين دوابهم. فقيل لهم: {لاَ تَرْكُضُواْ} أي لا تهربوا. قيل: إن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم. وقيل: إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم، والمترف المنعم، يقال: أترف فلان، أي وسع عليه في معاشه {ومساكنكم} أي وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم. وقيل: المعنى: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به؛ وقيل: لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم. قال المفسرون وأهل الأخبار: إن المراد بهذه الآية: أهل حضور من اليمن، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبياً اسمه شعيب بن مهدم، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضنن، وبينه وبين حضور نحو بريد، قالوا: وليس هو شعيباً صاحب مدين.
قلت: وآثار القبر بجبل ضين موجودة، والعامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم.
{قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي قالوا لما قالت لهم الملائكة {لا تركضوا} يا ويلنا، أي: ياهلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا مستوجبين العذاب بما قدّمنا. فاعترفوا على أنفسهم بالظلم الموجب للعذاب. {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي ما زالت هذه الكلمة دعواهم أي: دعوتهم، والكلمة هي قولهم: {يا ويلنا} أي يدعون بها ويردّدونها {حتى جعلناهم حَصِيداً} أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، والحصيد هنا بمعنى المحصود، ومعنى {خامدين} أنهم ميتون من خمدت النار إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات: قد طفئ.
{وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} أي لم نخلقهما عبثاً ولا باطلاً، بل للتنبيه على أن لهما خالقاً قادراً يجب امتثال أمره. وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} اللهو: ما يتلهى به. قيل: اللهو: الزوجة والولد. وقيل: الزوجة فقط. وقيل: الولد فقط. قال الجوهري: قد يكفي باللهو عن الجماع، يدل على ما قاله قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
ومنه قول الآخر:
وفيهنّ ملهى للصديق ومنظر ***
والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها، وجواب لقوله: {لاتخذناه مِن لَّدُنَّا} أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم. قال المفسرون أي من الحور العين، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. وقيل: أراد الردّ على من قال: الأصنام أو الملائكة بنات الله.
وقال ابن قتيبة: الآية ردٌّ على النصارى. {إِن كُنَّا فاعلين} قال الواحدي: قال المفسرون: ما كنا فاعلين. قال الفراء والمبرد والزجاج: يجوز {أن} تكون إن للنفي كما ذكره المفسرون، أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولداً؛ ويجوز أن تكون للشرط، أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا. قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية.
{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} هذا إضراب عن اتخاذ اللهو، أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره، وأصل الدمغ: شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. قال الزجاج: المعنى: نذهبه ذهاب الصغار والإذلال، وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب. قيل أراد بالحق: الحجة، وبالباطل: شبههم.
وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي. وقيل: الباطل: الشيطان. وقيل: كذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: زائل ذاهب، وقيل: هالك تالف، والمعنى متقارب، و{إذا} هي الفجائية {وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه، وقيل: الويل: وادٍ في جهنم، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك؛ ومن: هي التعليلية.
{وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض} عبيداً وملكاً، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم، فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكاً يعبد كما يعبد، وهذه الجملة مقررة لما قبلها {وَمَنْ عِندَهُ} يعني: الملائكة، وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفي التعبير عنهم بكونهم {عنده} إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم، وأنهم بمنزلة المقربين عند الملوك، ثم وصفهم بقوله: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلل له {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يعيون، مأخوذ من الحسير، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال: حسر البعير يحسر حسوراً: أعيا وكلّ، واستحسر وتحسر: مثله وحسرته أنا حسراً، يتعدى ولا يتعدى. قال أبو زيد: لا يكلون، وقال ابن الأعرابي: لا يفشلون. قال الزجاج: معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله، عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها كقوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206]. وقيل: المعنى لا ينقطعون عن عبادته. وهذه المعاني متقاربة.
{يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} أي ينزهون الله سبحانه دائماً لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون. وقيل: يصلون الليل والنهار. قال الزجاج: مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء، فكذلك تسبيحهم دائم، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أو في محل نصب على الحال {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض} قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام: الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء، و{أم}: هي المنقطعة، والهمزة لإنكار الوقوع. قال المبرد: إن {أم} هنا بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى، ولا تكون {أم} هنا بمعنى بل، لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدّر {أم} مع الاستفهام، فتكون {أم} المنقطعة، فيصح المعنى، و{من الأرض} متعلق باتخذوا، أو بمحذوف هو صفة لآلهة، ومعنى {هُمْ يُنشِرُونَ}: هم يبعثون الموتى، والجملة صفة لآلهة، وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع منهم لا محالة. والمعنى: بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى، وليس الأمر كذلك، فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك.
قرأ الجمهور: {ينشرون} بضم الياء وكسر الشين من أنشره أي: أحياه، وقرأ الحسن بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون.
ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدّد الآلهة، فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} أي: لو كان في السموات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا، أي لبطلتا، يعني السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات، قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة: إن {إلا} هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة لآلهة، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها وظهر فيه إعراب غير التي جاءت {إلا} بمعناها، ومنه قول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
وقال الفراء: إن {إلا} هنا بمعنى سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا، ووجه الفساد أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ويحدث بسببه الفساد {فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان، أي تنزّه عزّ وجلّ عما لا يليق به من ثبوت الشريك له، وفيه إرشاد للعباد أن ينزّهوا الربّ سبحانه عما لا يليق به. {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوّة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره {وَهُمْ} أي: العباد {يُسْئَلُونَ} عما يفعلون أي: يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده. وقيل: إن المعنى: أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. قيل: والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها.
{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} أي بل اتخذوا، وفيه إضراب وانتقال من إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق، إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم، ولهذا قال: {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} على دعوى أنها آلهة، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك، لا من عقل ولا نقل، لأن دليل العقل قد مرّ بيانه، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم، فأقيموا أنتم برهانكم. وقيل: المعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي فانظروا: هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه. قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله؟ وقيل معنى الكلام: الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء.
وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرآ: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة.
وقال الزجاج في توجيه هذه القراءة: إن المعنى: هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق} وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان، لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل. وقرأ ابن محيصن والحسن: {الحق} بالرفع على معنى هذا الحق، أو هو الحق، وجملة: {فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرّون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا يتأملون حجة، ولا يتدبرون في برهان، ولا يتفكرون في دليل.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ} قرأ حفص وحمزة والكسائي: {نوحي} بالنون، وقرأ الباقون بالياء أي: نوحي إليه {أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ} وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدّم من قوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ} وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته، فقال: {فاعبدون} فقد اتضح لكم دليل العقل، ودليل النقل وقامت عليكم حجة الله.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال: شرفكم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: فيه حديثكم. وفي رواية عنه قال: فيه دينكم.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بعث الله نبياً من حمير يقال له: شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم بختنصر فقاتلتهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء، وفيهم أنزل الله: {وَكَمْ قَصَمْنَا} إلى قوله: {خامدين}.
وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد، وابن المنذر عن الكلبي في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} قال: هي حضور بني أزد، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} قال: ارجعوا إلى دوركم وأموالكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} قال: هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم، فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم، وفي قوله: {فجعلناهم حَصِيداً خامدين} قال: بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: حدّثني رجل من الجزريين قال: كان اليمن قريتان، يقال لإحداهما: حضور، وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فلما أترفوا بعث الله إليهم نبياً فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم، فجهز لهم جيشاً، فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه، فجهز إليهم جيشاً آخر أكثف من الأوّل، فهزموهم أيضاً؛ فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون، فسمعوا منادياً يقول: {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومساكنكم} فرجعوا فسمعوا صوتاً منادياً يقول: يا لثارات النبي فقتلوا بالسيف، فهي التي قال الله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} إلى قوله: {خامدين} قلت: وقرى حضور معروفة الآن بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {حَصِيداً خامدين}. قال: كخمود النار إذا طفئت.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} قال: اللهو: الولد.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} قال: النساء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} يقول: لا يرجعون.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} قال: بعباده {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} قال: عن أعمالهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما في الأرض قوم أبغض إليّ من القدرية، وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}.


قوله: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} هؤلاء القائلون هم خزاعة، فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: هم اليهود، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا.
وقد قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله. ثم نزه عزّ وجلّ نفسه. فقال: {سبحانه} أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أي ليسوا كما قالوا، بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم، مقرّبون عنده. وقرئ: {مكرمون} بالتشديد، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى: بل اتخذ عباداً، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله أو يأمرهم به. كذا قال ابن قتيبة وغيره، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرئ: {لا يسبقونه} بضم الباء من سبقته أسبقه {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي هم العاملون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا، لم يعملوا عملاً ولم يقولوا قولاً إلا بأمره {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي: يشفع الشافعون له، وهو من رضي عنه، وقيل: هم أهل لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي من خشيتهم منه فالمصدر مضاف إلى المفعول، والخشية: الخوف مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التوقع والحذر، أي لا يأمنون مكر الله.
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إله مّن دُونِهِ} أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال المفسرون: عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس؛ وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة {فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي فذلك القائل على سبيل الفرض، والتقدير: نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين {كذلك نَجْزِي الظالمين} أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين: المشركون.
{أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ} الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، والرؤية هي القلبية، أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا {أن السموات والأرض * كَانَتَا رَتْقاً} قال الأخفش: إنما قال: {كانتا}، لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وقال الزجاج: إنما قال: {كانتا} لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد، لأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. والرتق. السد ضدّ الفتق، يقال: رتقت الفتق أرتقه فارتتق، أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج، يعني: أنهما كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما، وقال: {رتقاً} ولم يقل (رتقين) لأنه مصدر، والتقدير: كانتا ذواتي رتق، ومعنى {ففتقناهما} ففصلناهما، أي فصلنا بعضهما من بعض، فرفعنا السماء، وأبقينا الأرض مكانها {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء. وقيل: المراد بالماء هنا: النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية، والهمزة في {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} للإنكار عليهم، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية.
{وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} أي جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} الميد التحرّك والدوران، أي لئلا تتحرك وتدور بهم، أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الرواسي، أو في الأرض {فِجَاجاً} قال أبو عبيدة: هي المسالك.
وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج و{سُبُلاً} تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} إلى مصالح معاشهم، وما تدعو إليه حاجاتهم {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} [الحج: 65].
وقال الفراء: محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله: {وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ} [الحجر: 17]. وقيل: محفوظاً: لا يحتاج إلى عماد، وقيل: المراد بالمحفوظ هنا: المرفوع. وقيل: محفوظاً عن الشرك والمعاصي. وقيل: محفوظاً عن الهدم والنقض {وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ} أضاف الآيات إلى السماء، لأنها مجعولة فيها، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما، ومعنى الإعراض: أنهم لا يتدبرون فيها، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر} هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون، أي يجرون في وسط الفلك، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء.
وقال الكسائي: إنما قال: {يسبحون} لأنه رأس آية. والفلك واحد أفلاك النجوم. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} أي دوام البقاء في الدنيا {أَفَإِيْن مّتَّ} بأجلك المحتوم {فَهُمُ الخالدون} أي أفهم الخالدون؟ قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى: إن متّ فهم يموتون أيضاً، فلا شماتة في الموت. وقرئ: {مت} بكسر الميم وضمها لغتان: وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} أي ذائقة مفارقة جسدها، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان. {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} أي نختبركم بالشدّة والرخاء، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد: أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم، و{فتنة} مصدر {لنبلوكم} من غير لفظه {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود: إن الله عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أي الملائكة ليس كما قالوا، بل عباد أكرمهم بعبادته. {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} يثني عليهم {وَلاَ يَشْفَعُونَ} قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال: لأهل التوحيد وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال: لأهل التوحيد لمن رضي عنه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: قول لا إله إلا الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال: الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال: «إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} قال: فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض بالنبات.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {كَانَتَا رَتْقاً} قال: لا يخرج منهما شيء، وذكر مثل ما تقدم.
وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً من طريق أخرى.
وأخرج ابن جرير عنه {كَانَتَا رَتْقاً} قال: ملتصقتين.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} قال: نطفة الرجل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} قال: بين الجبال.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} قال: دوران {يَسْبَحُونَ} قال: يجرون.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} قال: فلك كفلكة المغزل {يَسْبَحُونَ} قال: يدورون في أبواب السماء، كما تدور الفلكة في المغزل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو فلك السماء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال: دخل أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه، ثم تلا: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} الآية، وقوله: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 30].
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} قال: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة.

1 | 2 | 3 | 4